السبت، 17 سبتمبر 2011

شيزوفرينيا المجلس العسكري


موقف المجلس العسكري محير فعلاً .. فهو يبدو أحياناً مؤيداً للثورة ، ولعل التحية العسكرية التي أداها أحد أعضاءه للشهداء وهو يلقي بيان العسكر في ذات يوم تخلي الرئيس السابق عن الحكم كان لها وقع شديد الإيجابية في نفوس كل المصريين ودللت على أن العسكر يؤيدون الثورة خاصة وأنه أُعلن في ذات البيان بشكل صريح لا لبس فيه أن العسكر لن يكونوا بديلاً عن الشرعية التي يختارها الشعب ، بعدها بدت تصرفات العسكر على أنها في سبيل إصلاح الأوضاع في البلاد ، فعلى سبيل المثال .. المجلس العسكري هو الذي قام بحل مجلسي الشعب والشورى وعطل الدستور ، وهو الذي شكل لجنة محايدة تماماً فور تنحي مبارك أجرت تعديلات دستورية لا يختلف أحد على أنها تعد تغيير حقيقي في القواعد التي تناولها التعديل لم يبلغ سقف أماني أكثر المتفائلين بمصر قبل الثورة بشهور قليلة سوى نصفها ، وهو الذي استجاب خلال أسبوع واحد فقط لمطلب الثوار فقام بتغيير الفريق شفيق وأعطى رئاسة الحكومة لأحد الأسماء التي رشحها الثوار ، وهو الذي عدل قانون الأحزاب وسمح بتأسيسها بالإخطار ، وهو الذي دعم الداخلية بخمسين ألف من جنوده حتى يتم إستعادة قوة الشرطة مرة أخرى ، وهو الذي رفض الإقتراض من البنك الدولى وصندوق النقد حتى لا يتأثر قرار مصر في الفترة القادمة بسبب التبعية الإقتصادية لتلك الجهات التي تتحكم فيها الولايات المتحدة والغرب وحتى لا تتحمل الأجيال القادمة مسئولية سداد عبء حل مشاكلنا الحالية ، وهو الذي لم يعترض على القبض على كامل أعضاء الصف الأول للنظام السابق بما فيهم مبارك الذي قيل كثيراً أن الجيش لن يسمح أبداً بمحاكمته لأنه كان واحداً من رجاله .. بل قام بتولى حراسة سجن مزرعة طره الذي أودعوا فيه.
ولكن في نفس الوقت فإن المجلس العسكري يبدو أحياناً رافضاً للثورة ، فعلى سبيل المثال .. هو الذي يصدر القانون تلو الآخر دون أي تشاور مع القوى الوطنية والسياسية بل وأحياناً ضد ما تجمع عليه ، وهو الذي قام بمهاجمة حركات ثورية كحركة 6 إبريل بدلاً من أن يحتويها إن كان يراها قد أخطأت ، وهو الذي يترك بلطجية الحزب المنحل يعتدون على أسر الشهداء تارة وعلى الثوار تارة أخرى دون أن يحرك ساكناً ، وهو الذي يرى تطهيراً سطحياً تجريه الداخلية فلا يعترض عليه ، وهو الذي يلقي القبض على بعض من يطلق عليهم الناشطين السياسيين وكان أمامه عدة خيارات للتعامل معهم أي واحداً منها أفضل من القبض عليهم ، وهو الذي يرفض إعطاء صلاحيات حقيقية للحكومة ، وهو الآن الذي يقوم بالإعلان عن تفعيل قانون الطوارئ.
العسكر بتصرفاتهم المتناقضة يجعلونا نضرب أخماساً في أسداس .. في أي جانب يقفون؟ هل هم شريكاً في هذه الثورة كما قالوا؟ .. وهناك الكثير من الأعمال التي تدعم تلك المقولة ، أم أنهم يعملون على القضاء على الثورة كما يعتقد البعض؟ .. وهناك الكثير من الأعمال التي تدعم ذلك الإعتقاد أيضاً ، أم أن هناك إنقسام بينهم فمنهم مع الثورة ومنهم ضدها؟ أم إنهم مستر جيكل ومستر هايد؟ أم إنهم مصابون بشيزوفرينيا حادة؟.
وقد تصدى الكثيرون لتفسير تصرفات العسكر غير أنه مع الأسف كانوا يتناولون السلبي منها فقط .. كانت كل التفسيرات تنطلق دائماً من خلال نظرية المؤامرة ، ولذلك كانت تنتهي إلى أن العسكر .. إما يعملون لحساب طرف خارجي .. أو لحساب طرف داخلي .. أو لحساب المجلس نفسه لنفسه ، وما كان ذلك التباين الشديد في التفسيرات إلا للتناقض الواضح في تصرفات المجلس العسكري.
ولأنني لا أميل لنظرية المؤامرة – رغم صوابها أحياناً – فقد حاولت تفسير تناقض العسكر في تصرفاتهم بعيداً عن تلك النظرية ، فلم أجد تفسيراً سوى القلق ، إن العسكر يعانون من حالة قلق شديد ، ليس ذلك القلق العام على مصير البلاد في المستقبل القريب لأننا جميعاً نتشارك فيه ، ولكنه قلق خاص على مصير قادة الجيش في المرحلة المقبلة ، قلق يحمل عبءه في الأساس أعضاء المجلس العسكري .. غير أن كل قواد الجيش من الصف الثاني والثالث يعانون منه أيضاً .. وهو ذات القلق الذي جعلهم يرفضون توريث الحكم لجمال مبارك كما ذكر أحد أعضاء المجلس العسكري في حديثه بأحد البرامج الحوارية عقب تنحي مبارك وأكده كل العالمين ببواطن الأمور ، ولهم كل الحق في رفض جمال مبارك رئيساً للبلاد هل يمكن أن يتحمل قادة الجيش أن يكون قائدهم الأعلى رجل مدني ؟ وإن تحملوا فهل يمكن أن يكون ذلك الفتى المغرور؟ هل يمكن أن يتصورا أنهم سوف يتلقون أوامرهم منه؟ لا وألف لا .. ولكن ما العمل؟ العمل من عند الله.
وها قد جاء العمل من عند الله .. لقد ثار الشعب وأسقط النظام ، وذهب الرئيس وإبنه إلى غير رجعه ، فبارك العسكر ثورة الشعب ، ولما لا .. وقد خلصتهم تلك الثورة من قلقهم .. فالشكر كل الشكر لثورة يناير ، وبدأ العسكر يقومون بما يجب أن يقوموا به فقاموا بحل مجلسي الشعب والشورى وتعطيل الدستور وتعيين لجنة لتعديل بعض مواد الدستور ودعوة الشعب للإستفتاء عليها ، وعندما إعترض الثوار على الفريق شفيق تم تغييره فوراً.
ولكن الممارسة التي تمت قبل الإستفتاء وبعده أظهرت القوى الدينية الأصولية على غيرها .. الإخوان المسلمون .. التيار السلفي .. الجماعة الإسلامية ، وبدأت دعايتهم تؤثر في الجميع بأنهم الأقوى والأكثر عدداً وتنظيماً وتمويلا ، وهنا بدأ العسكر يسألون أنفسهم هل من المعقول تصور أن هؤلاء سوف تؤول إليهم مقاليد الحكم فيسيطرون على مجلس الشعب ويصبح أحدهم رئيساً للجمهورية أي الرئيس الأعلى لهم؟ هل ذهب الفتى المغرور ليأتي بدلاً منه فضيلة المرشد؟ وهنا بدأ القلق الذي ذهب مع ذهاب جمال مبارك يعود من جديد مع عودة مرشد الإخوان.
وبعد ظهور نتيجة الإستفتاء وما فسره البعض من أنها تدلل على سيطرة التيار الديني الأصولي على الواقع الحالي ، إزداد قلق العسكر .. ولم يكن أمامهم سوى الثوار لضبط المعادلة ، فإذا بالثوار ينقلبون عليهم بعد إثني عشر يوماً من ظهور نتيجة الاستفتاء فخرجوا في الأول من إبريل يعلنون رفضهم حكم العسكر ، والعسكر لا يريدون حكماً ولكنهم لم يتعاملوا قط مع رئيس مدني ولا يتصورون أن مدنياً يمكن أن يصبح قائدهم الأعلى ، هم يرفضون ذلك يريدون من يطمئنهم على موقعهم في منظومة التغيير التي تنتظر البلاد ، وفي الأسبوع التالي بدأ الثوار يعملون على إحداث إنقلاب في الجيش ضد قادته .. ضد أعضاء المجلس العسكري ، ولأنهم بالقطع لن يجدوا ضابط عامل يسايرهم في ذلك قاموا بإحضار مجموعة من الضباط المفصولين للقيام بالمهمة ، فتم القبض عليهم .. وإزداد قلق العسكر أكثر وأكثر.
ترك العسكر الأمور تتفاعل لعل تفاعلها يظهر من بين القوى السياسية من يثقون في قدرته على ترتيب وضع المؤسسة العسكرية في النظام الجديد ، فلم يُخرج التفاعل سوى أنصاف لا يصلح أياً منهم لمنصب القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية يعلو أولئك القادة ويآتمرون بأمره .. فكلهم لا هم لهم إلا تأييد الثوار في مهاجمتهم للعسكر ، ومن كان يجرأ أن يأيد العسكر والغموض يكتنف محاكمة مبارك ، فإزداد قلقهم وتنامى.
ولعل مبارك شعر بذلك القلق ، فأراد أن يستغله لعل قلق قادة الجيش من كافة القوى المهيمنة على الشارع سواء التيار الأصولي أو الثوار أو التيارات السياسية يكون قد وصل بهم لحالة اليأس من الثورة فيقفون معه وتذهب الثورة إلى حيث أتت ، فخرج مبارك محدثاً الشعب .. ولكن العسكر لم يكونوا قد وصلوا لليأس بعد وعلى الفور سمحوا ببدء إجراءات محاكمته بعد أن بدأ مبارك يفسد لهم الأمور ويعقدها ، ولكن لا فائدة فقد استمر الهجوم على العسكر يتزايد ، وإستمر قلق العسكر أيضاً يتزايد.
وفي محاولة من العسكر لحل المشكلة .. شجعوا شخصيتين عسكريتين لدخول سباق الرئاسة لعل أحدهما ينال ثقة الشعب وتأييده .. الأول كان الفريق مجدي حتاته رئيس الأركان الأسبق ، والثاني كان الفريق محمد على بلال قائد قوات الدفاع الجوي الأسبق ، فأي رجل منهما يمكن أن يكون مقبولاً كقائد أعلى للقوات المسلحة ، وعلى الفور قام العسكر بطرح استطلاع رأي لمعرفة مدى حظوظهما ، فإذا بهما يتذيلا القائمة كما أن أداء الرجلين كان محبطاً للعسكر تماماً ، فإستمر القلق وتزايد وإزادت تصرقات العسكر تناقضاً.
وأعتقد أنه لم يدرك قلق العسكر سوى أربعة أشخاص فقط ، الأول لا يعول عليه .. فقد خرج الأستاذ طلعت السادات ليعلن أن الظروف الراهنة تحتاج لرجل عسكري يدير البلاد ، ولكن ذلك لم يكن الحل الذي يريده العسكر كما إنه غير قابل للتحقيق فلا توجد شخصية عسكرية حالية أو سابقة يمكن أن تنال ثقة الشعب أو أن تقنعه بقدراتها السياسية وقد أبعدهم المخلوع عن الساحة السياسية تماماً حتى يتيح المجال لإبنه.
أما الثاني فقد كان الدكتور صفوت حجازي ولكنه فسر قلق العسكر تفسيراً خاطئاً فقد أعتبره قلق منهم على مصيرهم من المحاسبة عن وقائع فساد ربما تكون قد حدثت من بعضهم أيام النظام السابق ، فتكلم الرجل عن صفقة بين الثورة وبين العسكر يتم فيها التغاضي تماماً عن كل ما فات ، فهوجم الرجل بشراسة ووجد أصحاب تفسير تآمر العسكر مع الأصوليين في حديث حجازي دليلاً على صحة تفسيرهم فسكت الرجل ، وكان رد فعل العسكر أن أصدروا قانوناً يقضي بأن تكون محاسبة العسكريين بما فيهم المحالين إلى المعاش عن أي وقائع فساد تنسب إلي أي واحد منهم أمام القضاء العسكري .. حتى يذكروا حجازي ومن معه بأنهم ليسوا في حاجة لصفقته ، كما صرح رئيس الأركان بنفسه أن مدنية الدولة مسألة أمن قومي لمصر .. حتى يعلم الجميع أن العسكر لا يريدون حكماً وأنهم أيضاً لا يثقون في أصحاب اللحى ويريدون حلاً من غيرهم.
وعلى الفور ألتقط المستشار هشام البسطويسي المرشح المحتمل للرئاسة رسالة رئيس الأركان وأدرك مدى القلق الذي يعاني منه العسكر فطرح الرجل فكره أن يتولى الجيش حماية مدنية الدولة على النموذج الأتاتوركي ، ولكنه هوجم كذلك وبعنف .. فتراجع عن ذلك الطرح بعد أن استشعر أنه سوف يخرجه من سباق الرئاسة مبكراً جداً ، واستمر قلق العسكر كما هو وأصبح ينعكس على كافة تصرفاتهم.
أما الرابع الذي أدرك قلق العسكر كان الدكتور عمرو حمزاوي .. فقد حاول أن يعيد طرح فكرة البسطاويسي مع تعديلها بأن يكون الجيش ضامناً لمدنية الدولة وليس حامياً لها ، فهوجم أيضاً فسكت ولم يعيد الحديث .. خاصة وأنه كان مقبل على تأسيس حزب سياسي يحقق من خلاله طموحه السياسي المشروع الذي لم يخفيه ، وهو بالتأكيد لا يريد أن يدمر إستمرار الهجوم عليه كل ذلك.
وبذلك إستمرت المشكلة بلا حل ، قلق العسكر على مستقبلهم يتزايد مع خلو الساحة من ثمة من يمكن أن يثقوا فيه ويقتنعوا به لكي يصبح قائدهم الأعلى وأيضاً مع إقتراب موعد الإنتخابات ، وبالتالي أصبحت تصرفاتهم أكثر تضارباً وتناقضاً ويزداد الهجوم عليهم من الثوار وتتعدد التفسيرات التآمرية.
إذا أردنا مخرجاً من الأزمة التي تعيشها مصر الآن قبل أن ييأس العسكر من الثورة .. علينا أن نناقش مستقبل المؤسسة العسكرية بكل وضوح وشجاعة بما يحقق صالح البلاد أولاً وصالح العسكر ثانياً ، ولابد أيضاً أن نشارك العسكر في قلقهم لأن إحتمال سيطرة التيار الأصولى على الفترة القريبة القادمة هو إحتمال قائم بكل تأكيد ، وكما يستغل قادة الأصوليين المواطنين البسطاء للوصول إلى أهدافهم سوف يستخدمون الجيش فيما بعد لإستكمالها ، فهل نحن مستعدون لذلك؟ نحن مستعدون لأن يصبح الشيخ صلاح أبو إسماعيل أو الدكتور سليم العوا مثلاً رئيساً لمصر للسنوات الأربع القادمة .. ولكن هل نحن مستعدون لأن يصبح أياً منهما القائد الأعلى للقوات المسلحة؟
إذا كان الإجابة لا .. فإن علينا الآن أن نطرح حلولاً تفصل بين مؤسسة الرئاسة وبين المؤسسة العسكرية حتى لا يكون أي خلل بالأولى يمكن إصلاحه بعد أربع سنوات .. يطال الثانية وقد لا يمكن إصلاحه أبداً ، وحتى نأمن بذلك الفصل أيضاً عدم تخطي العسكر للحاجز بين المؤسستين فيتولى واحد منهم رئاستهما معاً.
إن فصل مؤسسة الرئاسة عن المؤسسة العسكرية يحقق صالح البلاد أولاً ، وثانياً يزيل قلق العسكر من أن يصبح مدنياً قائدهم الأعلى ولم يسبق لهم ذلك أبداً ، وبذلك نعطي الفرصة للثورة للإنطلاق إلى آفاق تحقق كل أهدافها.
وأعتقد أن الفصل بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية يمكن أن يتحقق بأحد شكلين : الشكل الأول ألا يصبح الرئيس قائداً أعلى للقوات المسلحة وتقتصر عضوية المجلس على العسكريين فقط برئاسة القائد العام الذي لا يصبح وزيراً للدفاع كما هو الآن ، حيث يقوم الرئيس بتعيين وزيراً مدنياً للدفاع يكون همزة الوصل بين المؤسستين دون أي سلطات فعلية لذلك الوزير على الجيش الذي يتولى كافة صلاحياته المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة القائد العام ورئيس الأركان.
أما الشكل الثاني فهو التخلى عن تقسيم منتسكيو الذي نأخذ به ودول عديده معنا ، وهو التقسيم الذي يقسم سلطات الدولة إلى تنفيذية وتشريعية وقضائية ويعتمد مبدأ الفصل بين تلك السلطات ، بأن نضيف سلطة رابعة هي السلطة العسكرية ممثلة في القوات المسلحة ، وتصبح السلطة العسكرية سلطة مستقلة مثلها في ذلك مثل السلطتين التتشريعية والقضائية.
ويشكل في الحالتين مجلساً للأمن القومي يضم كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزيري الدفاع والداخلية ، ورئيس مجلس الشعب ونائبه ورئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بالمجلس ونائبة ، والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الأركان وقائدي الجيشين الميدانيين الرئيسيين وهما الجيس الثاني والجيش الثالث ، ويكون قرار الحرب من إختصاص مجلس الأمن القومي بالأغلبية وليس من إختصاص الرئيس فقط.
وبذلك نزيل قلق العسكر فتزول حالة الشيزوفرينا التي أصابتهم ويعودوا شريكاً حقيقياً للثورة ، هل لدينا من يمتلك الشجاعة لطرح تلك الإقتراحات التي سوف تفتح الباب للعسكر أنفسهم ليدلوا بدلوهم فيما يرونه وبالتالي يحدث الإلتحام بينهم وبين التغيير الذي ننشده بصفة عامة ، هل لدينا من لا يخشى على إنتخابات رئاسية أو برلمانية ولا يخشى إلا على مستقبل مصر. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق